الزمن اللازم للقراءة: 8 دقيقة
أزمة النفايات الأخيرة في لبنان

بحر النفايات في بيروت

مقالة خاصة
الشاحنات تفرغ حمولتها في مكبّ برج حمود
الشاحنات يفرغون النفايات والأتربة في البحر ضمن مشروع توسيع البر في برج حمود. المصور: كونستانز فلام لمجلة زينيت

كتب الأديب اللبناني، جبران خليل جبران، "لاتنسى ان البحر مؤلف من قطرات، وفي كل قطرة كل ما في البحر من معاني". لكن اليوم ما تجده في قطرة ماء في لبنان، على الأرجح هو نفايات سامة تهدد مواطنيه والحياة البحرية والبحر المتوسط.

بتاريخ الثاني والعشرين من شهر نيسان/أبريل أقدمت مجموعة من الناشطين في لبنان على منع شاحنات النفايات من الوصول إلى مطمر الكوستا براڤا، احتجاجًا على تلويث البيئة. وقد نجح ذلك في تخفيف وجيز للإحباط الذي يسبّبه منظر النفايات غير المعالجة التي تُرمى في البحر المتوسّط. تمّ تصميم التظاهرة الرمزيّة لنشر التوعية حول مخاطر المطامر غير الصّحّيّة الموجودة حول بيروت، العاصمة.    

 

إنّ العلاقة المشحونة بين لبنان ومسألة التخلّص من النفايات مشهورة جدًّا. ففي العام ٢٠١٥، اتّحدت تظاهرات "طلعت ريحتكن" مغتاظة بشملها من ترك النفايات تتعفن في شوارع بيروت بعد إقفال المطمر الرئيسي، وغاضبةً من الفساد السياسي وعدم الكفاءة. بلغت التظاهرة حجمًا هائلا بحيث أصبحت تهدّد الاستقرار السياسي في البلاد. ولكن، في حين أن النفايات أُزيلت من الشوارع في نهاية المطاف لإرضاء المواطنين، بدا الدّواء أسوأ بأشواط من الداء.

 

سلحفاة بحرية ميتة طافية على سطح الماء
سلحفاة بحرية ميتة طافية على سطح الماء بالقرب من مطمر برج حمود.المصور: كونستانز فلام لمجلة زينيت

يقع مطمرا الكوستا براڤا وبرج حمّود على حافة البحر، وبالرغم من الحواجز الخرسانيّة المبنيّة، تبقى الموادّ المرتشحة - سوائل مؤذية تتسرّب من المطامر -  تتدفق إلى البحر المتوسّط. وما يدعو للقلق بشكل أكبر هو ربّما المقاولون الذين يديرون مطمر برج حمود العائد إلى أيّام الحرب الأهليّة – والمعروف محلّيًّا باسم جبل النفايات – يغرقون نفايات غير معالجة مباشرة في البحر كجزء من عمليّة استصلاح الأراضي. وقد استقبل وزير البيئة اللبناني طارق الخطيب هذا الخبر مكتفين بهزّ كتفيه.

 

يبقى تأثير هذه التدابير على بيئة لبنان وجيرانه المتوسطيين مجهولًا. اشتكى الصيادون من شباك تملأها النفايات بدلًا من الأسماك، في حين طَفَت الأسماك على سطح الماء، ميتة. تعاني أشكالٌ أخرى من الحياة البحريّة أيضًا: حين زارَ مصوّر لمجلة زينيت المنطقة المحيطة بمطمر برج حمود، وجد سلحفاة بحريّة ميتة تطفو على المياه الضحلة. بينما تغطّي النفايات البلاستيكيّة أقسامًا كاملة من بعض الشواطئ الرملية كلّيًّا، كما تطفو بعض النفايات التي غمرت المياه الدافئة. إلّا أنّ المطامر ليست مدعاة القلق الوحيدة، فمياه الصرف الصحّيّ غير المعالجة، الآتية من نظام شبكات بالكاد يعمل في المدينة، تصبّ أيضًا في البحر، وهذه هي الحالة في الرملة البيضاء، آخر الشواطئ العامّة في لبنان.

 

هنالك نوع من عدم التصديق لدى بعض اللبنانيّين بأن هذا واقع ما يحدث. يقول وديع الأسمر، الناشط الاجتماعيّ ومنظّم حملة "طلعت ريحتكن" أنّنا نلوّث البحر الأبيض المتوسّط بكامله –هو بحيرة. ونحن البلد الوحيد الذي يبني مطمراً ؛الكوستا براڤا؛ قرب المطار! أنشئنا "مطعمًا" للطيور المهاجرة، تأتي إليه لتأكل، فتشكّل خطرًا بالغًا على محرّكات الطائرات القريبة وسلامتها".

شخص يسبح على شاطئ جبيل
شخص يسبح على شاطئ جبيل بجانب نفايات بلاستيكية طافية على الماء.المصور: كونستانز فلام لمجلة زينيت

ليست الطيور وحدها ما يهدّد الطائرات العابرة. يتمّ إرسال النفايات العضويّة مباشرة إلى المطامر، بدلًا من فرزها وتحويلها إلى سماد عضويّ. في المطامر، تتحلّل بدون احتواء الهواء، فتُصدر غاز الميثان قابلًا للاحتراق. تتعرّض بالتالي الطائرات المحلّقة فوق مطمر الكوستا براڤا لخطر الانفجار إذا ما طرأ عطل كهربائيّ على متنها. يقول حسين حسن، أستاذ ومساعد في قسم العلوم الطبيعيّة في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة (LAU). وقد أبطلت المحاكم المساعي الرامية إلى إقفال المطمر.

 

يحذّر الخبراء من تأثيرات رهيبة على الناس والبيئة. يقول حسن: " إن لم تُعالَج الأوضاع بالشكل الصحيح، سيواجه لبنان عواقب طويلة وقصيرة الأمد تطال صحّة مواطنيه ".

 

إلّا أنّ أحدًا ليس في موقع تحديد حجم وطبيعة هذه العواقب المحتملة، في غياب تقرير شامل عن النسبة الحاليّة لتلوّث المياه، لاسيّما فيما يخصّ المطمرين المفتوحين على الشاطئ، على حدّ قول حسن. تمّ الإبلاغ عن حالات تفشّ التهاب المعدة والأمعاء وحمى التيفوئيد، غير أنّ الأخطار الأكثر حدّة هي التي تنتج على المدى الطويل من تلوّث المياه بالمعادن الثقيلة كالرصاص والزرنيخ والكادميوم، إضافة إلى موادّ مسرطنة أخرى تسبّب السرطان ومشاكل بالغة تطال صحّة الإنسان.

صياد سمك على كورنيش بيروت
صياد سمك على كورنيش بيروت وامامه تطفوا النفاياتالمصور: كونستانز فلام لمجلة زينيت

 

عمل القارب الشراعيّ الإيطاليّ، الميديتيرانيا، لمدّة سنتين، على جمع عيّنات من العوالق على امتداد الشاطئ المتوسّطيّ بهدف قياس سلامة مياه البحار. في شهر نيسان/أبريل من هذه السنة، أخذ عينات في طريقه بين قبرص ولبنان (خارج نطاق المياه التابعة رسميًّا للبنان) ليتمّ فحصها من قبل خبراء في جامعات أوروبية. سبق وكشف فحص عيّنات من شواطئ الجزيرتين اليونانيّتين زاكينثوس والفونسوس عن وجود جسيمات بلاستيكيّة، ما يستدعي الانتباه البيئيّ.

 

تقول الدكتورة بريسيلا ليكاندرو، مديرة البحوث في المشروع الذي انطلق في الأساس مع مؤسّسة "السيد ألستر هاردي للعلوم البحريّة" في المملكة المتّحدة (SAHFOS) أنّه لا يمكن احتواء التلوّث البالغ في المياه لأنّ البحر الأبيض المتوسّط مترابط بعضه بالبعض الآخر. إنّ جمع عيّنات العوالق من قبل الميديتيرانيا وسيلة لرصد حالة سلامة البحار والتنوّع البيولوجي على شواطئه. يُعتبر قياس التنوّع البيولوجي أمرًا جوهريًّا لتحديد وضع البحر، وهو ما يؤثّر على السياسات البحريّة على مستوى الاتّحاد الأوروبي. يفيد الأسمر إنّ العيّنات التي تمّ جمعها قرب الشاطئ اللبنانيّ لا تزال بحاجة للفحص، وإنّ الجامعة الأميركيّة في بيروت تقوم أيضًا بدراسات لرصد وتقييم نسب تلوّث المياه في البلاد.

 

في غضون ذلك، ليست المطامر وحدها المشكلة المائيّة التي يواجهها لبنان. فالبلاد تبني سدًّا بثلاثمئة مليون دولار شمال العاصمة على أرضٍ حذّر الخبراء من احتوائها على مسامّ كثيرة تمنع حفظ نسب كبيرة من المياه؛ كما ان مياه نهر الليطاني ملوّثة بشكل هائل، تمامًا كسدّه. "إنّ تطبيق خطّة لمعالجة مياه الصرف الصّحّيّ في بيروت من شأنه أيضًا أن يقلّص نسب تلوّث المياه. لسوء الحظّ، لا يمكن العمل بالخطّة بعد بسبب نقص التمويل وفرض الضرائب على معامل معالجة مياه الصرف الصّحّيّ." يقول بسّام القنطار، صحافيّ وناشط اجتماعيّ.

 

إلّا أنّ الأمر لا يخلو من بعض التحسينات: في أوجّ أزمة النفايات في صيف ٢٠١٥، كان عدد مكبّات النفايات الخطرة النشطة في لبنان يناهز الأربعمئة. أمّا اليوم، فقد انخفضت العدد ليقارب المئتين فقط، بحسب الأسمر. يقول إنّ ثمّة أمثلة إيجابيّة إضافيّة عن إجراءات تمّ تطبيقها لمعالجة النفايات في بعض البلديّات، إنما القليل منها فقط.

غروب الشمس على كورنيش بيروت
غروب الشمس على كورنيش بيروت، المنتزه الذي يجمع اللبنانيين من مختلف الأديان والطبقات الإجتماعية. المصور: كونستانز فلام لمجلة زينيت

انتجت أزمة لبنان الأبديّة مع النفايات نتيجة إيجابيّة واحدة، وهي تعزيز المجتمع المدنيّ. انطلقت الحركات المدنيّة مصمّمة على لعب دور ناشط في السيطرة على الأوضاع والحفاظ على المصالح الصحّيّة والمدنيّة البديهيّة للمواطنين. يقول القنطار إنّ أزمة العام ٢٠١٥ " ساعدت في بناء حركة قويّة للمجتمع المدنيّ في البلاد "، مع أنّه يرى بعض القيود. " من جهة، اقترح المجتمع المدنيّ اللبنانيّ حلول بيئية مستدامة لإدارة النفايات الصلبة كالفرز أو إعادة التدوير ". لكن من الجهة الاخرى، يؤثّر المجتمع المدنيّ تأثيرًا سلبيًّا عند اتّخاذ موقف " المشكلة ليست في بيتي!".

 

إن المجتمع المدنيّ يراقب ويضغط على الحكومة لتعتمد الشفافية في حلولها لمعالجة النفايات، بما يشمل الأبحاث والدراسات. إحدى الأدوات العلميّة الناقصة لبناء خطّة تشمل البلد كلّه هي التخمين الشامل لنسب تلوّث المياه على امتداد لبنان. على المستوى المحلّيّ المصغّر، أطلقت أحياء كاملة مبادرات أو نظّمت وتطوّعت في حملات تنظيف الشواطئ والأماكن الريفية. وكردّة فعل على مزيد من النفايات التي تطفو على مياه الشواطئ، بدأت المنظّمات غير الحكوميّة تنشر التوعية حول المشكلة من خلال تنظيم حملات تنظيف تشارك فيها المجتمعات المحلّيّة.

 

كل شيء ملوث

 

في حين تتعدّد أفكار الأفرقاء حيال طريقة معالجة المشكلة، فهم يتشاركون جميعًا نفس الهدف والقلق: إيجاد الحلول لأزمة النفايات. ويقول الأسمر، منظّم حملة " طلعت ريحتكن " إنّ " مجتمعنا مجتمع حرب أهليّة، و٥٠ إلى ٦٠ بالمئة من نفاياتنا عضويّة ". هو يحبّذ نظام اللامركزيّة الذي يسمح للبلديّات بالإمساك بزمام الأمور بحيث تصبح هي المسؤولة عن علاج النفايات. على ان تقوم الحكومة بالإشراف ووضع خطوطًا توجيهيّة للبلديّات وتضمن احترام هذه التوجيهات. وتبقى الشفافيّة والمسؤوليّة شرطًا ملزمًا. يقول الأسمر إنّه في غضون ذلك، يجب فرز النفايات بشكل صحيح لاستخدام محارق النفايات بطريقة فعّالة. ويعتقد أنّ على الاتّحاد الأوروبي ممارسة الضغط على الحكومة لضمان تطبيق الفرز. ويضيف متعجّبًا: " تريد (الحكومة) أن تحرق كلّ شيء من دون الفرز أوّلًا ".

 

يرى حسن، الأستاذ في الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة، صورة مشابهة. "بهدف معالجة النفايات بشكل فعّال، ثمّة حاجة إلى تقليصها في المصدر وإعادة تدويرها (بما يشمل التحويل إلى أسمدة عضويّة) وإلى الحرق والردم. تكمن المشكلة في لبنان في إرسال النفايات إلى المحارق من دون معالجتها أوّلًا". ويعتبر أنّها لو عولجت في البدء، لتقلّصت نسبة النفايات التي تصل إلى المطامر بشكل بالغ. ويجد أنه من الجوهريّ أيضًا إزالة المطامر التي تصبّ مباشرة في البحر أو قنوات المياه. إنّ قنوات المياه الملوّثة التي يستخدمها المزارعون لريّ المزروعات تُحدث مشاكل صحّيّة إضافيّة.

مياه المجاري تصب في البحر
مياه المجاري الغير معالجة، تصب في البحر عند مطمر الكوستا برافاالمصور: كونستانز فلام لمجلة زينيت

 

وقد تمّ اتّخاذ بعض التدابير الإيجابيّة من قبل السلطات البلديّة، كفرض الفرز في المصدر والتحويل إلى أسمدة عضويّة في بلديّة بيت مري جنوب بيروت وبكفيّا في محافظة جبل لبنان. غير أنّ معامل الفرز قليلة جدًّا على حدّ قول الأسمر. ويعتقد أنّ ١٠ إلى ٢٠ بلديّة فقط اتّخذت تدابير إيجابيّة على صعيد لبنان (من بين أكثر من ألف بلديّة في البلاد). بشكل عامّ لا تزال المشكلة غير معالجة بشكل كبير. على وجه الخصوص، ما زلنا بحاجة إلى استراتيجية حكوميّة واضحة لحلّ مشكلة البلد بأسره، على حدّ قوله.

 

لا شيء يجسّد سوء الإدارة الحكوميّة بشكل أوضح من مطمري الكوستا براڤا وبرج حمود، وتسرّب النفايات إلى مياه البحر. لا يزال هذان الموقعان يثيران حماسة الناشطين. قد تكفي قضية مرفوعة عالقة في المحاكم لإغلاق مطمر الكوستا براڤا، ولكنّ المشكلة ستستمرّ – كما كانت الحال في ٢٠١٥ -  في غياب حلّ حقيقيّ من الحكومة والسلطات. إن مصير سياسة إدارة نفايات بلد بأكمله على المحكّ تمامًا كمستقبل بيئته وصحّة سكّانه. ويقول الأسمر إنّ الحكومة قادرة وملزمة ببذل المزيد من الجهود للحفاظ على البيئة. " كلّ ما في هذه البلاد ملوّث".


 

لمحة تاريخيّة مقتضبة عن النفايات في لبنان

 

ليست مشكلة إدارة النفايات في لبنان أمرًا جديدًا. قبل الحرب الأهليّة اللبنانيّة (١٩٧٥-١٩٩٠)، كانت البلديّات تتولّى جمع النفايات. كانت هي المسؤولة عن معالجة وجمع النفايات. حتّى في ذلك الوقت، لم تكن العمليّة منسّقة بشكل جيّد، بل بعيدة كلّ البعد عن المستوى المُرضيّ. شكّلت الحرب الأهليّة حدثًا مفصليًّا بالنسبة للبنان الحديث، ولقطاع جمع النفايات أيضًا.

 

مطمر برج حمود
مطمر برج حمود نشأ خلال الحرب الأهلية كمكب نفايات غير رسمي. لا احد يعلم اليوم ما يحويه هذا المطمر.المصور: كونستانز فلام لمجلة زينيت

 

خلال فوضى الحرب، صدّرت بلاد عديدة – بينها إيطاليا وألمانيا وبلجيكا – نفايات سامّة إلى لبنان، وباعتها أحيانًا إلى رجال أعمال فقدوا الضمير، طمروها ببساطة في المطامر غير الرسميّة من دون معالجتها، بينها مطمر برج حمود. إلّا أنّ هذه الممارسة مُنعت حين صادق لبنان على اتفاقية بازل بشأن التحكم في نقل النفايات الخطرة والتخلص منها عبر الحدود (١٩٨٩)، وهي اتّفاقيّة دوليّة وُضعت للحدّ من حركة النفايات السامّة من البلدان المتطوّرة إلى البلاد الأقلّ تطوّرًا. ولكن حتّى الآن، لم تُحدَّد طبيعة النفايات المطمورة حاليًّا في موقع المطمر. ويرى وليد الأسمر أنّ نفايات نوويّة سامّة قد لا تزال محفوظة في برج حمود. بعد الحرب، سار قسم من عمليّة معالجة النفايات نحو الخصخصة، غير أنّ خطط إعادة تدوير النفايات نُفّذت بنسبة خجولة جدًّا جدًّا.

عن: 
غايا بيلغريني-بيتولي
تصوير: 
كونستانز فلام