الزمن اللازم للقراءة: 8 دقيقة
المعلن والمستور في سوريا

الأزمة السورية بين الظاهر والباطن

مقال رأي
بقلم عصام عبود
دبابات مدمرة في مدينة عزاز
يبدو الصراع للمشاهد على انه مثل اي صراع بين طرفين، ولكن بالنظر عن كثب يمكن ان نرى انه يخفي وراءه عمقاً مختلفاً. المصور: كريستيان تريبيرت المصدر: ويكيميديا

بعد أكثر من ست سنوات على اندلاع الأزمة السورية، اصبحت البلاد في حالة من التشظي والانقسام على كل المستويات، السياسية والعسكرية والاجتماعية، في غياب أي أفق واقعي للحل في بلد تحول الى مأزق دولي كنتيجة طبيعية لتدخل أممي مضطرد في شؤونه الداخلية.

إن كان الانقسام السياسي والعسكري يمكن فهمه بوصفه نتاجاً طبيعياً لهكذا نوع من الأزمات، ومشابهاً لأزمات عديدة عصفت بدولٍ عديدة حول العالم في القرن الماضي، إلا أن طبيعة الانقسام الداخلي السوري، يبدو أشدّ تعقيداً في الشكل والمضمون مما حدث في أي نزاع اخر حول العالم.

 

فالأزمة السورية تأخذ شكلاً ظاهرياً نمطيا، أما المضمون الداخلي يصعب فهمه رغم أنه يوحي بعكس ذلك من خلال النظرة الأولى، وكأن ثنائية الظاهر والباطن، التي تتميز بها عقيدة بعض الأقليات والطوائف المنغمسة في النزاع السوري، قد عكست فلسفتها على حالة الصراع الذي تخوضه وأعطته ذلك الشكل الفريد من التناحر بين القوى المتصارعة في صورة حرب أهلية حديثة، بينما عمق الصراع  ضارباً جذوره في التاريخ ومحملاً بأحقاد ومظلوميات اقدم من الأزمة الحالية بقرون.

 

فعلى المستوى العسكري، يبدو الصراع للمشاهد على انه مثل اي صراع بين طرفين (معارضة ونظام)، ولكن بالنظر عن كثب يمكن ان نرى انه يخفي وراءه عمقاً مختلفاً يتمازج فيه المذهب والعرق مع السياسة في تركيبة معقدة.

 

فنكاد نشعر أن المعارضة، في شقها العسكري، باتت أقرب إلى كتيبة سنية عسكرية، تتدرج بمروحة تبدأ من أقصى التشدد المذهبي (داعش – النصرة)، إلى حالة تدّعي الوسطية والبعد عن مفهوم العسكرة السنية (الجيش الحر)، على الرغم من أن تفاصيلها تأخذ نفس المنحى المتشدد، بدءاً من أسماء الكتائب العسكرية وأسماء المعارك الهجومية التي تستعملها والمستقاة غالباً من أسماء إسلامية لها مدلولاتها المذهبية، وانتهاءً بانتماء عناصرها بشكل شبه كامل للمذهب السني.

 

أما إصرارها على عدم طائفيتها بالرغم من كل المظاهر السابقة، فهو ليس سوى ضرورة تفرضها المعادلة الدولية التي تتطلب وجود قوى علمانية من الواجب دعمها في وجه نظام ديكتاتوري دموي وفق تصنيفها. ومع ذلك فإن الأمر لا يتطلب جهدا كبيرا لاكتشاف أن هذا الانصياع للرغبة الدولية هو أمر ظاهري، لا ينسجم مع المحتوى الداخلي لتركيبة هذه المجموعات المقاتلة، مما يعمق فرادة الحالة وغرابة المشهد!

 

أما على المستوى السياسي، فإن معظم القوى السياسية، التي تحاول أن تكون فاعلةً وحاضرةً في المشهد، لا تملك تمثيلاً شعبياً حقيقياً على الأرض يمكن المراهنة عليه في أية انتخاباتٍ حرة مفترضة مقبلة. وما ينطبق هنا على القوى السياسية المعارضة والعاملة في الخارج والمشكلّة من ائتلاف غير متجانس، يبدو كتجمع أسماء أكثر منه تجمع لقوى سياسية ذات بعد تاريخي وشعبي كما هو المفروض، ينطبق أيضا على القوى السياسية المعارضة من الداخل.

 

هذه القوى والأحزاب التي استحدث معظمها أثناء الأزمة، تقودها شخصيات لا تملك مصداقية تاريخية، ولا تحمل قيماً فكريةً يمكن أن تحرّض النخب للعمل تحت رايتها، والبعض منها وبالرغم من التاريخ النضالي لبعض مؤسسيها، والمتمثل غالباً بسنوات اعتقال قلت أو كثرت، تبدو وكأن هدف انشائها هو البروز الشخصي، أكثر منه القيام على بنيةٍ فكريةٍ تنظيميةٍ، يمكن لها أن تؤسس لعقد اجتماعي وفكري جديد، بعيداً عن الطموح الشخصي لقادتها، والمفتقدين أساساً لكاريزما القيادة والقدرة على إلهام الحشود.

 

ولعلّ المدهش أصلاً بهؤلاء، انبثاق معظمهم من منظوماتٍ سياسيةٍ سابقةٍ تؤمن بالدكتاتورية وتدعو لها، إذ أن نموذج الاتحاد السوفيتي السابق وعبد الناصر، وليس النموذج الليبرالي، هما المفضلين لدى أغلبهم؛ وتحولهم فجأة في الأزمة بشكل مذهل إلى ديمقراطيين من العيار الثقيل من دون أية مراجعةٍ فكريةٍ أو نقديةٍ حقيقيةٍ لتاريخهم، أو أية وقفة مع الذات لهذا التحول من الأقصى للأقصى!

 

في المقلب السياسي الآخر، نرى المنظومة الحزبية ذات الطابع الشمولي على حالها. هذه المنظومة التي حكمت طوال أكثر من أربعين عاماً في تناغم عجيب ما بين حكم عسكري وحزبيٍ، ماتزال ممثلا شرعيا لديكتاتوريات القرن الماضي، لكنها تجتهد لتظهر بمظهر ديمقراطي؛ لكن من دون جدوى على أية حال؛ فتصطنع انتخابات بلدية أو نيابية، تجرى ديمقراطياً من حيث الشكل، مع ممارسة التزييف وتشويه الرأي العام، كعادتها، في المضمون.

 

هذا التناغم محكومٌ بمستوىً آخر من الانفصام، يتمظهر بنمط حكم، تبدو مشاركة جميع مكونات المجتمع الطائفية فيه ممثلةً، في حين أن الواضح هو سيطرة عقلية العشيرة ورب العائلة الممسك بزمام الأمور السياسية والعسكرية وحتى المعيشية، مع قبولٍ وتسليمٍ تامين من ممثلين افتراضيين لطوائف المجتمع السوري، مما يعطي النظام وجهاً تعددياً يستفيد منه في إضفاء الشرعية اللازمة لحكمه.

 

في ظل ما سبق، تبدو الأزمة السورية أكثر تعقيداً مما تبدو عليه في الوهلة الأولى، فهي حربٌ أهليةُ بكل مكوناتها، وبنفس الوقت لا تنطبق عليها شروط الحروب الداخلية المعروفة في التاريخ، وخاصة لدى في الفكر الغربي المحكوم بتجربته وفلسفته الخاصة بنمط هذه الحروب وأسلوبه في التعاطي معها.

 

فبالنسبة للغرب هناك ببساطة صراع مابين معارضة ونظام، وعلى الغرب، وهو المحكوم بمنظومة إنسانية منبثقة من قوانينه المعلنة، أن يقف إلى جانب المعارضة التي تحارب نظاماً عمره أكثر من 40 عاماً ويتوارث السلطة بأسلوب ملكيٍ، فيما يرفرف علم الجمهورية على ساريته.

 

ولكن الغرب تناسى حقيقة وواقع الشرق العربي، هذا الشرق الذي لم يعرف نظاما ديمقراطيا في تاريخه، سوى استثناءات قصيرة في فترة ما بعد الاستقلال، والتي أتت في فورة انزياح الاستعمار والتأثر المباشر بأسلوب حكم المستعمر نفسه.

 

وكنتيجة لهذه العقلية البسيطة والساذجة، وبهذه القراءة السطحية لما يحدث، قام الغرب منذ البداية بإعلان تحيّزه التام للمعارضة ودعمها، لكن لم يصل هذا الدعم إلى مستوى التدخلٍ العسكريٍ المباشر نتيجةً لفقدانه الغطاء الأممي من جهة، ولخوفه من تكرار التجربة الليبية وما قد تجره على أوروبا في المستقبل من جهة ثانية.

 

فبقي الدور الأوروبي غائماً وحجم مساعداته العسكرية بحدها الأدنى، فيما تم التركيز على المساعدات الإنسانية وطرح مشاريع بالجملة لعزل النظام الحاكم في سوريا، ما شكل خطيئة سياسية واستراتيجية لم يدفع ثمنها إلا الشعب السوري الذي عانى من ويلات هذا الحصار والعزل أكثر مما عانى منه رجالات النظام الذين تم وضعهم على لائحة العقوبات السوداء. هذا الدعم وذاك العزل المحكومين بالهواجس، أبقيا الحرب مستمرة لست سنوات حتى الآن في توازن مريب للقوى المتصارعة على الأرض.

 

المعضلة الأساسية الآن والسؤال الأبرز الذي أصبح يواجه جميع العاملين في الشأن السوري هو: إلى أين بعد كل هذه الفوضى؟ وماهي آفاق المستقبل لبقعة ذات حساسية جغرافية وسياسية؟ وما هي الحلول لتجمع بشري تعداده يفوق ال 24 مليون إنسان يتكاثرون بأعلى معدلات التكاثر عربيا وعالميا، من دون وعي فكري وثقافي مصاحب يؤطر هذا الانفجار السكاني ويعطيه شكلا فاعلا في المجتمع؟

 

قد ينطبق ما سلف ذكره على العديد من الدول الإفريقية والأسيوية وحتى الأميركية، على أن الأخيرة محكومة بجغرافيتها النائية إجمالا عن العالم القديم. إذ أن تلك الدول، وعلى الرغم من وقوعها تحت سيطرة أنظمة شبيهة، ما تزال قادرة على تنفيذ سياسة احتواء مقنعة برضى وتسليم غربي يؤمن حدودها ويمنع التمدد السكاني وموجات لجوء ضخمة إلى البر الأوروبي، ولكن طبعا بأساليب غير ديمقراطية غالبا.

 

وكما تنازلت أميركا والغرب عموما عن ممارسة الشرعية الدولية في دولة كالصومال، لغياب مصالح حقيقية لها فيها، وتركتها تحل مشاكلها بنفسها بعد تامين الملاحة البحرية، نجدها وبعكس ذلك في الحالة السورية، وللأسباب الجيو–سياسية المرتبطة بالقرب الجغرافي من أوروبا وتدفق اللاجئين إليها، مضطرة للخوض في تفاصيل أزمتها، ولكن من دون فهم واضح لمضمون النزاع وجوهره.

 

إذاً نحن أمام مأزق حقيقي وأسئلة عديدة تحتاج لإجابات سريعة. في الواقع لا تبدو المؤتمرات الدولية قادرة حتى الآن على تقديم أية حلول ناجعة تنتج حلا ينعكس إيجابا على الميدان السوري الملتهب، لا بل يمكنني الإدعاء بأن المؤتمرات التي تقام في الخارج والمحتضنة دوليا، تبدو كأحد تجليات الظاهر والباطن في الأزمة السورية، وفي أوضح تمظهر لها.

 

ففي المظهر وعلى المستوى السياسي تبدو هذه المؤتمرات كأنها تجمع لمعظم الشخصيات التي عملت وتعمل في الشأن السوري تقريبا، حتى تلك التي لم يسبق للجمهور السوري معرفتها، إلا من حالفه الحظ ودخل إلى أحد الأندية أو الصالونات التي كانت تديرها هذه الشخصيات قبل الأزمة. فهؤلاء كانوا كغيرهم مستفيدين من كم الفساد المستشري في ثنايا الحكم السوري. يضاف إلى ذلك بعض الشخصيات الأكاديمية التي لم يسبق لها العمل السياسي من قبل، وللأفراد والأحزاب والجمعيات التي حظرت في سوريا منذ ثمانينات القرن الماضي ومارست نشاطها خارج سوريا.

 

أولائك المؤتمرون يقومون بمناقشة الأزمة السورية في عاصمة مثل جنيف، مع أنهم لا يملكون أية أوراق أو تمثيل أو قوى عسكرية خاضعة لسلطتهم، باستثناء الإخوان المسلمين في بعض الكتائب العسكرية. فالمطلوب من هذا التجمع إيجاد حل للازمة السورية، وهو بدون أية قدرات او "مونات" عسكرية على مقاتلي الداخل في صراع عسكري شرس، تستخدم فيه كل انواع الأسلحة.

 

وهنا يبدو النظام السوري، عبر ممثليه، القوة الوحيدة التي يمكن لها أن تفي بإلتزامات عسكرية أو اتفاقات يمكن التوصل إليها، فيما يظهر الطرف الآخر كممثل للدول المشاركة في الاجتماع، أكثر منه ممثل للشعب السوري الذي يتكلم باسمه.

 

في ظل هذا التوصيف المتشائم يعود السؤال ليقفز من جديد: ما الحل إذا؟

 

بتقديري، يجب البدء بإجراءات أساسية، عملية وواضحة وشفافة، بعيدا عن منطق الظاهر والباطن، المعلن والمستور، تستند إلى مقاربة الواقع كما هو دون تجميل ودون اللعب على المفردات والكلمات التي بلا معنى. ربما تكون البداية بوضع تعريف واضح لما جرى ويجري في الداخل السوري عبر:

أولاً- توصيف الصراع الحالي بأنه صراع تقوده قوى إسلامية سنية ضد نظام حكم يستند في قوته لتحالف أقليات علوية – مسيحية – اسماعيلية – درزية مهددة بوجودها، معها شريحة ضخمة من المسلمين السنة وخاصة سنة المدن الكبرى، التي جمعتها تاريخيا مصالح كبرى مع هذا النظام. هذا ما أضفى على هذا النظام طابع الحكم الفريد الذي يقوم بجوهره على الطائفة العلوية، تحت عباءة حزبية متعددة الطوائف.

 

ثانيا- الحل في سوريا لا يمكن أن يبدأ إلا بإجراء مصالحة حقيقية بين مكونات الشعب السوري المتعدد الانتماءات، والتي أصبح عداؤها لبعضها ظاهرا ومتأثرا؛ إضافة إلى مسيرة النزاع؛ بما حدث ويحدث في العراق ولبنان، رغم أنه بقي محافظا بالشكل الظاهري على تعايش نسبي فرضته الدولة في أماكن سيطرتها حتى الآن.

 

هذه المصالحة يجب أن تتم بداية عبر محاولة إجراء إبراء متبادل بين ممثلي هذه الطوائف ومرجعياتهم، وتجريم كل من يحاول استباحة دم أي من الطوائف الأخرى أو المذهب الآخر. هنا، يمكن لرئيس الجمهورية؛ بغض النظر عن شخصه؛ أن يلعب دورا في رعاية هذا الإجراء بوصفه مظلة لجميع السوريين وفوق كل الطوائف.

 

ثالثاـ نزع سلاح جميع القوى العسكرية غير الحكومية، ولو بالقوة وبالدعم الدولي، وإجراء مصالحات مع من يلقون السلاح وإصدار عفو عام عنهم، خاصة أولئك غير الملطخة أيديهم بدماء طائفية.

 

رابعا- تأكيد سلطة القانون وتطبيق مواده على الجميع دون استثناء، ودون وساطات حزبية أو طائفية، كتلك السائدة والمعهودة في الدولة البعثية.

 

خامسا- إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وتشكيل فريق عمل مركزي ذي صلاحيات يشرف على تنظيم هذه الهيكلية وإعادة إدارة عملها وفق أسس جديدة.

 

سادسا- بحث مسالة الأقليات القومية بشفافية بما يصون حقوقها دون المساس بحدود الدولة أو قوانينها، وذلك بسبب الطبيعة الخاصة لهذه المسألة.

 

سابعا- إعطاء صلاحيات أوسع للمجالس المحلية في المحافظات ومنحها صلاحية سن القوانين بما يتناسب مع خصائص كل منطقة، شريطة ألا يتعارض ذلك مع القوانين الأساسية للدولة السورية ولا يأتي على هيبتها.

 

ثامنا- الاستفتاء على دستور جديد للبلاد يتوافق عليه السوريون ويضعه مشرعون سوريون، يؤكد على علمانية الدولة ويكفل للمواطنين حقوقهم السياسية بما يتوافق مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ويراعي الخصوصيات الثقافية للمكونات المختلفة للشعب والمجتمع السوري.

عن: 
عصام عبود