الزمن اللازم للقراءة: 15 دقيقة
الغوص في القصص "المُظلمة" لضحايا العنف الجنسي في المغرب

أطفال "الحشومة"

تقرير
الطفلة صفية ضحية عنف جنسي
الطفلة صفية ضحية عنف جنسي المصور: محمد أبطاش

كان يقوم بذلك الفعل"، هكذا بدأت صفيّة بسرد وقائع ما حدث لها، وهي تغوص في أعماق جرح نفسي خلفه اعتداء جنسي عليها لم يندمل بعد، وامتد لسنوات، وأصبح طيف "الحاج" السبعيني الذي اعتدى عليها يرافقها حتى في منامها".

وأضحى أحيانا يأتيها بلباس أبيض ناصع حاملا سكينا، وأحيانا أخرى ينتشلها والدها من أحضانه، تقول وهي تعيد تركيب أحلام وكوابيس مزعجة تزورها من حين للآخر

 

صفية البالغة من العمر 10 سنوات، هي ضحية عنف جنسي، من طرف جارها الذي يكبرها بـ60 سنة،  واستمر باغتصابها كلما سنحت له الفرصة لاستدراجها إلى منزله على بعد مترين فقط من بيت أسرتها، بإحدى أزقة حي مديونة القروي في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء.

تقول أم صفية " أن الشيخ كان يغتصب طفلتي، منذ كانت تبلغ من العمر سنتين، ولم يتم الكشف عن هذه الوقائع، إلا عندما بدأت الطفلة تكبر وتطفو معها آثار الاعتداء . أصبحت مُدرستها تشك في تصرفاتها وتأخرها المستمر عن الالتحاق بالفصل، فكان ذلك المفتاح الوحيد لاكتشافي سلسلة الاعتداءات التي وقعت ضحيتها "، فالوقار الذي يظهره الشيخ السبعيني، القاطن بجوارهما، لم يلفت انتباه أحد، على أنه كان متعلقا بها بشدة، مستقطبا إياها إلى داخل فراش بيته، عبر منحها الفواكه أو النقود  كلما سنحت له الفرصة لذلك، ويهددها برميها من النافذة لو فكرت في إخبار أحد عن  هذه الممارسات.

 

 لقد جعلت عوامل عدة صفية تقع فريسة بين أنياب المعتدي عليها، منها تموقع منزل سكنها في حي "مديونة" الذي يتوزع بين الأطراف الجنوبية للدار البيضاء، وبالضبط في زقاق شعبي بالكاد يبلغ عرضه مترين، بالإضافة إلى انشغال الجميع، فالأب موظف عام يخرج للعمل باكرا و لا يعود إلا في وقت متأخر من الليل، وشقيقها الأكبر سنا، يظل هو الآخر منشغلا  في دوامة العمل، بينما تبقى الأم حاضنة رضيعها الصغير، داخل المنزل المؤلف من طابقين مساحته 50 مترا مربعا، حيث غرفة الزوجين في الطابق الأول وبيت الأطفال في الطابق السفلي، فيما الطفلة الوحيدة لديهما تلعب غالبا مع صديقاتها أمام المنزل، مما يسهل على المعتدي استدراجها إلى بيته المؤلف من نفس الهندسة المعمارية لمنزل أسرة صفية، متلصصا الحركة من نافذة منزله، كونه يعيش وحده بعيدا عن أسرته، قبل استدراجها، واقتيادها حتى غرفة نومه.

 هذا البيت الذي تتذكره صفية بكل تفاصيله الدقيقة، " أتذكر كل ما يوجد في  منزله. في الأسفل بيت فيه سجادة الصلاة، وفي البيت العلوي، حيث ينام، فهناك سرير لشخصين مرتب وأنيق،  مع خزانة تقليدية للملابس".

تقول الأم وهي توزع نظراتها من وراء الخمار، أنه بعد شكوك المُدرسة حول تصرفات ابنتها، وتأكدها من الاعتداء، لم تجد سبيلا إلى إخبار زوجها، خشية بطشه من جهة، وبيئة "الحشومة" من جهة ثانية، حيث الأسرة محافظة،  مما جعل أزمة الصغيرة تتعمق شيئا فشيء في غفلة من الجميع، وفقدت معه التركيز داخل الفصل، وأصبحت تصرفاتها تتغير مع أمها وتلازمها العزلة. وتأكدت الوالدة أكثر عندما "عثرت في حوزتها على بعض النقود، ولما استفسرتها ! .. قالت: أعطاها لي الحاج".

هذه الظروف الطارئة في حياة صفية، جعلت الأم تبوح للزوج بالسر بعد مدة من التردد، ومنذ تلك اللحظة باتت الانتكاسة سيدة الموقف في منزلهما وباتت علب الأدوية تغطي أرجاء البيت. وتصرح الأم " تغيرت حياتي كليا واستفحلت أمراض زوجي من السكري والقلب والضغط الدموي، خصوصا بعد إطلاق سراح المعتدي على ابنتي قبل انقضاء العقوبة الحبسية، فقد حُكم عليه بخمس سنوات سجنا، ولم يقض منها إلا أقل من سنتين، بفعل قرار التخفيف على السجون نتيجة مخاوف من تسلل فيروس "كورونا" إليها،  بدون مراعاة ظروف ابنتي التي تعيش وسط دوامة من الكوابيس والعقد النفسية وأصبحت تميل للحيوانات الأليفة أكثر من أي شيء آخر".

كما تلقي باللوم على والدتها، " لقد دمرتي حياتي منذ إخبارك لوالدي بقصة ما تعرضت له " هكذا أسرت الأم وهي تسرد تفاصيل سلوكات غريبة  باتت تظهر على طفلتها.

 قصة الحيوانات الأليفة كما جاءت على لسان الأم، أضحت هاجسا مخيفا لدى الأب أيضا، إذ منذ الاعتداء الجنسي عليها، أضحت لصيقة بصوص دجاج يلاحقها في كل أرجاء البيت، وتميل إليه بشدة أكثر من غيره، حيث يساعدها في تخطي الأزمة النفسية، ونسيان وقائع الاعتداء، كما أصبح مؤنسها الوحيد، وحتى صديقاتها لم تعد تجالسهن منذ تعرضها  للتنمر من قبل زملائها في الفصل الدراسي.

أما أحلامها فقد رسمتها من غرفة المحكمة، إذ كانت تحلم يوما أن تصبح مدرسة للأجيال، إلا أنها اليوم تحلم أن تصبح قاضية، لتستعيد شيئا من كبرياء طفولتها الذي حطمه السبعيني، والاقتصاص لفائدة الأطفال الذي يقعون ضحايا لمثل هذه الجرائم " أريد أن أكون قاضية لأحكم بالعدل " تقول صفية.

وإذا كانت صفية قد تعرضت للاعتداء الجنسي وهتك عرضها، واغتصابها باستمرار وتهديدها، وخلع ملابسها وتلمس مناطقها الحميمة، فإنها لم تحصل سوى مرتين على استشارة من الطب النفسي، أولهما  لما اكتشفت الأسرة هذه الوقائع بتاريخ 28 أكتوبر من سنة 2018، حيث تم أخذها عند طبيب الأطفال في المستشفى الجامعي ابن رشد بالدار البيضاء، وثانيهما في الرابع من يناير سنة 2019 من طرف نفس الطبيب، أي شهرين بعد الحادثة، لتنقطع بعد ذلك متابعة العلاج.

فيما لم يُقدم الطبيب المتابع لحالتها في الدفتر الخاص لهذا الغرض، أية ملاحظات حول مدى نجاح الجلسات من عدمها، أو قابلتيها للعلاج، حيث أن الدفتر الصحي خال تماما من أي تفاصيل إضافية سوى موعد المقابلتين بالتاريخ المذكور.

 

وتقول الأسرة متوسطة الدخل حيث الأب هو المعيل الوحيد ماديا، أن من أسباب هذا الانقطاع وجود عامل المسافة بين منطقة سكنها والمستشفى الجامعي للأطفال حيث يبعد 20 كيلومترا، ثم غياب التوجيه والتوعية حول الطب النفسي، ناهيك عن السعر المرتفع في القطاع الخاص حيث يبلغ سعر الجلسة الواحدة حسب تفاوت العيادات من 300 درهم حتى 500 درهم حسب رغبة الأسرة، ثم غياب مراكز طبية حكومية متخصصة في المتابعة النفسية على مستوى التجمعات السكنية.

 حسب آخر الإحصائيات التي أصدرتها وزارة الصحة حول المراكز الطبية المتخصصة في الطب النفسي، منذ سنة 2017، لم تعمل الوزارة سوى على توظيف خمسة أطباء مختصين في الطب النفسي للأطفال أي بمعدل  خمسة أطباء مختصين في السنة، ويتم تعيينهم غالبا في المستشفيات الرئيسية للمدن منها المستشفى الجامعي ابن رشد ، والذي يستقبل نحو 500 طفل ومراهق في الشهر، مما يضيع فرصة العلاج النفسي والمتابعة الدورية، على ضحايا العنف الجنسي القاطنين بهامش المدن كحالة صفية.

وإذا كانت كانت هذه العوامل تعمق أزمة صفية نفسيا وجعلتها تواجه المجتمع بأضرار نفسية، على غرار المئات من أطفال ضحايا العنف الجنسي بالمغرب،  فإن جلستي الاستماع النفسي للطفلة صفية بالمستشفى الجامعي ابن رشد، كانت "روتينية" فقط،" فمجمل الأسئلة في الجلسة، تدور حول التوجيه وإسداء النصائح والتوصيات وتوخي الحذر مستقبلا" هكذا تقول الأسرة.

 وهي الطريقة التي ينتقدها الدكتور نور الدين دحمان أخصائي نفسي لطب الأطفال بطنجة،  مصرحا، " أن الاستماع إلى الطفل يجب أن يمر من مراحل عديدة، فالأطفال الذين يتعرضون لاعتداءات مطولة، يتعرضون لشخصية تدميرية، ويصعب كثيرا مساعدة هؤلاء الأطفال بطريقة ناجحة، كما أن تجربة المختصين ضعيفة، فهناك اختصاص داخل اختصاص، ويجب أن تكون هناك طواقم خاصة لهذا الغرض".

محامي صفية يوسف غريب هو أيضا محامي جمعية "ماتقيش ولادي لحماية الطفولة"، يقول هو الآخر، أن غياب المتابعة النفسية  "لأطفال الحشومة" بات يطرق بشدة الضمير الوطني والعالمي.

قائلا "نصطدم بعدد من العائلات التي يتعرض أبناؤها للعنف الجنسي دون عرضهم على طب نفسي بعد الحادثة، ولا بد من تدخل الدولة لبناء مراكز خاصة، وتتضمن طواقم طبية وأخصائيين نفسيين" .

 

 قصة صفية، لا تختلف كثيرا عن قصة، "أمير" ذي سنوات الست، القاطن بجنوب مدينة أكادير، وبالضبط منطقة آيت عميرة على بعد 54 كيلومترا، وهو ضحية اعتداء جنسي من أقربائه، وأسهمت الظروف المزرية التي تعيش فيها والدته، وطلاقها من أبيه، في تعميق أزمته النفسية. فهو الآخر، تعرض لعنف جنسي، وأصبح حبيس منطق "الحشومة" طيلة أشهر، وتتشابك قصته مع صفية، من حيث اكتشاف الأم للواقعة أيضا، أي بعد مرور مدة فاصلة عن الاعتداء، وظهور بعض السلوكات الغريبة عليه، حسب قول والدته. وتحكي سعيدة والدة أمير، " لم أكتشف واقعة الاعتداء سوى حين زرت  شقيقتي، فما أن عاين أمير قارورة محلول "السيروم" فوق التلفاز، حتى توجه لها بأصبعه بالكثير من الدهشة" قائلا "ماما ماما..  إنه  السيروم الذي أشربه عند عمي"،  فكان ذلك مفتاحا لكشف تعرض الطفل للاعتداء الجنسي بشكل مستمر حين كان عند والده بقرية "جمعة السحيم"  بنواحي مدينة آسفي وسط المغرب.

 

بعد أن اكتشفت الأم، هذا السر، قامت بالضغط على طفلها، ليحكي لها فصول هذه الأحداث، فصرح لها أنهم كانوا يعتدون عليه بشكل مستمر مما تسبب له في التهابات بمخرجه، وقال لوالدته أن المعتدين من أقربائه يستدرجانه إلى الجبل أثناء رعي الغنم، ويغتصبانه، فيلجئون تارة إلى محلول "السيروم" لتنويمه لتفادي صراخه، وتارة أخرى يكون عن طيب خاطر، بفعل التكرار الذي أصبح يألفه الطفل شيئا فشيئا، حتى أضحى يلبي رغباتهما حين ينفردان به، ويقول " كانا يعتديان علي ويقومان بذلك "الفعل" باستعمال السيروم حين أصرخ، وحينما ينتهي عمي، يبدأ عمي الآخر، وأريد القبض عليهما لقتلهما، هذا مجمل ما استطاع أمير البوح به.

وتحكي سعيدة البالغة 31 سنة من عمرها، أنها لاحظت قبل ذلك، تغيرا في تصرفات طفلها من خلال سرعة ولوجه الحمام كلما شعر بضرورة قضاء حاجته، ثم ضبطه رفقة شقيقه الأصغر "محمد أمين"، وهما في وضعية تلبس بخلع ملابسهما والشروع في الممارسة الجنسية السطحية، مما صدم الأم التي انقلبت حياتها رأسا على عقب.

 يقطن أمير اليوم رفقة أمه المطلقة من أبيه بحي هامشي بآيت اعميرة، مع شقيقه محمد أمين ذي الخمس سنوات ربيعا، كما أن الفقر وغياب معيل الأسرة زاد من معاناتهما المادية، حيث أزمة الطفلين وأمهما تتعمق يوما بعد يوم، بفعل هذا الاعتداء الجنسي، فبيتهما بالكاد تجد فيه مكانا صالحا للجلوس، فقد لجأت الأم لبيع كل الأثاث نتيجة أزمة مالية خانقة، ولم يتبقى لهما سوى بعض الأفرشة وبعض مستلزمات المطبخ، بينما تغطي روائح أنابيب الصرف الصحي كل أرجاء البيت، فحتى عملية إصلاحها لم يعد بمقدور الأم التكفل بها ماديا. وتقول سعيدة التي لايفارقها الحزن والبكاء، أن خروجها من المنزل للتوجه للعمل، أضحى يدب الخوف في نفسها، من تكرار الاعتداء على طفلها من قبل الغرباء، مما دفع بها لعرض منزلها للبيع وكتابة رقمها الهاتفي على جدرانه أملا في المشتري، حتى يتسنى دفع تكاليف المحاميين للقبض على المعتدين على ابنها، ومواكبة التتبع النفسي والدراسة، " لقد كنت أنتظر منه مستقبلا واعدا، لإنقاذي من هذه الوضعية المزرية التي أعيشها، فإذا بي أتفاجأ بتدمير مستقبله ومستقبلي أيضا، وأصبح التفكك يلازمنا" هكذا قالت.

وبكثير من الخوف والخجل والحذر، يستعيد أمير شريط ما جرى، فعيناه باتت تشك في كل رجل يلج بيت والدتها، حتى أن أبناء الجيران الشبان، باتوا كابوسا له ولأمه، من معاودة التربص به والاعتداء عليه، فالطفل أصبح فريسة سهلة أمام المتربصين بعد معرفة الجميع بقصة العنف الجنسي، مع العلم أن الحي الذي يقطنانه، يصنف ضمن المناطق المحفوفة بالمخاطر بجهة سوس بسبب الإجرام والانحراف.

قصة الطفل أمير، بالكاد وصلت للقضاء مطلع يونيو الماضي، بعد أن توجهت الأم بشكاية تسرد فيها تفاصيل واقعة العنف الجنسي ضد طفلها، إلى النيابة العامة، وعبرت فيها عن أمالها بالقبض على المعتدين، بينما لم يعرض الطفل سوى مرة واحدة على المتابعة النفسية في عيادة خاصة، بسبب الفقر والظروف المادية المزرية للأم، فتراجعت عن الاستمرار في عرضه على الطب النفسي، كما أن أقرب مركز حكومي للأطفال يوجد بالمستشفى الجهوي الحسن الثاني شرق أكادير، ويبعد عن آيت اعميرة حوالي 41 كيلومترا، مما يجعل  أمير وأمه يستسلمان لهذه الظروف، وسط مجتمع ينظر لضحايا العنف الجنسي بكثير من الشفقة، والسهل استغلاله مرة ثانية.

قصة أمير تتشابه إلى حد ما، مع المئات من قصص الأطفال ضحايا العنف الجنسي بجهة سوس ماسة، ففي آخر تقرير تفصيلي لجمعية "نحمي ولدي" لحقوق الطفل، المؤازرة حقوقيا للطفل أمير، أكدت فيه أن " ظاهرة الاعتداءات الجنسية على الأطفال تتنامى بشكل كبير ومخيف، وتبين أن عدد الحالات التي تصدر فيها الأقرباء لائحة المعتدين بلغت 30 في المائة من مجمل النسبة المئوية التي أحصتها".

 

أما بالنسبة للفئة العمرية لاحظت الجمعية،" أن أغلب الذين يبلغ عمرهم سنتين حتى ست سنوات،  ضحايا عنف جنسي وقع في الحضانة، والدكاكين واستغلهم ذوي السوابق وذوي القربى والأصول، بينما يتصدر الفقر والتفكك الأسري، الأسباب التي تكون  وراء العنف الجنسي ضد هؤلاء الأطفال".

 وإذا كان هذا تقرير لجمعية مدنية غير حكومية، فإن مؤسسات حكومية ممثلة في وزارة العدل والمديرية العامة للأمن الوطني، كشفتا في آخر التقارير الرسمية المتوفرة، أنه مابين سنتي 2010 و 2012، فإن 26 في المائة من إجمالي حالات العنف المسجلة بالمغرب، صُنفت في خانة العنف الجنسي.

وسجلت لدى الدوائر الأمنية بين سنتي 2007 و 2012، نحو 11599 ألف حالة عنف جنسي اتجاه القاصرين ومنهم 16 في المائة تعرضوا للعنف داخل الأوساط الأسرية، و67 في المائة تعرضوا للعنف في الشارع العام.

 وفي آخر تقرير رسمي لوزارة العدل برسم سنة 2017 تم تسجيل 2403 حالة عنف جنسي في هذه السنة لوحدها، مما يكشف ارتفاعا في أرقام العنف الجنسي ضد الأطفال بالمغرب من سنة إلى أخرى. من الملفات التي توصلت بها جمعية "نحمي ولدي" كمنظمة غير حكومية، أيضا، وفي سياق اشتغالها على قضايا العنف الجنسي بسوس ماسة، قصة معقدة، لشاب بوسط مدينة أكادير، ويتعلق الأمر بشاب اسمه عزيز يبلغ من العمر 31 سنة، وأبدى موافقته مشاركة قصته، شريطة، الحديث في حديقة عمومية كدافع نفسي لمواجهة ما تعرض له بهذا المكان، فشقيقته ترفض أي غريب يدخل منزلها.

 هذا الشاب الذي يجر وراءه "طفولة جريحة"، قال وهو يسرد وقائع ما جرى له " حين كنت  طفلا في الـ 14 من عمري، وكجميع الأطفال المهووسين باللعب واللهو، كنت ألعب بحديقة مجاورة لحينا، حين باغتني ثلاثة أشخاص وهما في مقتبل العمر، ووضعوا السكين على عنقي، واقتادوني باتجاه غابة خارج المدينة، وظلوا يمارسون معي الجنس بكل أنواعه، حتى ساعات من الليل، دون شفقة ولا رحمة".ويواصل عزيز الحديث عما جرى له، " بعد أن تم الاعتداء علي، تركوني في الخلاء، وقطعت مسافة طويلة حتى عثرت على الطريق المتوجه إلى منزلي، إلا أني لما توجهت إلى المنزل، لم يعرني والدي أي اهتمام، وتوجه في الصباح إلى عمله كالعادة، فلم أعرض على الأمن للقصاص من المعتدين، ولا الطب النفسي لعلاجي الصدمة النفسية".

 يواصل عزيز الحديث قائلا " دخلت في حالة اكتئاب حادة، وأصبحت لا أخرج من بيتي"،  مما جعل والدته تعرضه على الفقهاء، ظنا منها أنه مسحور ولما تدهورت حالته النفسية، قام والده بطرده من المنزل، حيث سيتشرد في شوارع المدينة، وتعرض خلالها لاعتداء جنسي ثان على يد جانحين، تسببا له في جرح غائر بواسطة السكين في وجهه لما حاول مقاومتهم، لتكون هذه الواقعة الثانية.

 أصبح هذا الشاب يعيش في عزلة تامة عن الجميع، حيث لا يجالس أحد، وينزوي في بيت شقيقته، و"حتى العمل يرفضون قبولي، لوجود آثار الجروح الغائرة بالسكين في وجهي، وفي بعض الأحيان أفكر في الانتحار أو الانتقام من الأشخاص الذين عرضوني للاغتصاب، وقد لمحت مؤخرا اثنين منهم، يشتغلون في محل لتصليح السيارات" يقول عزيز.

 بالعودة إلى تقرير الجمعية الحقوقية، فإن " الإهمال الأسري، الذي تتعرض له المئات من حالات العنف الجنسي يزيد من معاناتها النفسية، بفعل هيمنة  منطق "الحشومة" "، ويقابله غياب المؤسسات الحكومية عن التأطير، إذ لايوجد أي قانون بالمغرب يلزم الأسر على عرض أطفالها، على الطب النفسي العمومي، باستثناء ظهير30أبريل 1959 الخاص بالصحة النفسية، و يعتبر من أقدم القوانين بالمملكة ولم يطله أي تغيير منذ إقراره،رغم مرور 30 وزيرا على حقيبة الصحة.

وقد كان محط انتقادات واسعة في المغرب، كما أشار إلى ذلك تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان كمنظمة حكومية بالمغرب، الصادر في سبتمبر 2012، حيث أشار التقرير " لتقادم الإطار القانوني الوطني المرتبط بالوضعية إلى حد عدم ملائمته للواقع الحالي"، كما رصد، "غياب تكفل خاص وحماية لفئات الأطفال".

 إن غياب قانوني مؤسساتي يُلزم الأسر بعرض أبنائها على الطب النفسي، وجمود ظهير الصحة النفسية، بات من الضروري البحث معه عن صيغ جديدة لقوانين تواكب اعتداءات غريبة تطفو على السطح، وأصبحت دخيلة على المجتمع المغربي، وتنتشر بعدد من القرى، كحالة الطفلة خولة 13 سنة، من قرية شراقة حوالي 27 كيلومترا عن طنجة شمال المغرب، والتي تصنف حالتها ضمن خانة الاعتداءات "المحرمة" دينيا وأخلاقيا، ويطلق عليها محليا "زنا المحارم" وفي التشريع القانوني حالة "اعتداء ضد الأصول"، إذ المعتدي هذه المرة، ليس سوى الأب.

 

 "أكره والدي ولا أطيق رؤيته مدى الحياة، ولا أريده أن يخرج  أصلا من السجن"، هذا كل ما استطاعت خولة أن تقوله عن والدها الذي هتك عرضها لمرات كثيرة، وعاشرها معاشرة الأزواج، لتجهش في البكاء وهي تعيد تذكر شريط العنف الجنسي، الذي تحاول نسيانه بالرسومات الهندسية وفن الديكور المنزلي، حيث تحلم أن تصير مهندسة.

فهذه "الجريمة الكبرى والخبيثة" حسب وصف أم خولة، جعلت حياة الأسرة تدخل نفقا مظلما، فالأب الثلاثيني اليوم في السجن، والأم مطلقة تعيش مع والدتها بمعية صغارها وتقتسم معهم الغرف، والطفلة خولة تعيش أزمة نفسية وأصبحت عقدة ما جرى يلازمها في كل حين. وتقول الأم وهي تكشف فصول هذه الواقعة الغريبة، أنه، رغم تعرضها طيلة 14 سنة من الزواج لأنواع الضرب والتنكيل على يد زوجها، إلا أن هذه المعاناة لم تجعلها تفكر يوما، في طلب الطلاق وتشريد أسرتها، حتى دخلت علاقتهما منعرجا خطيرا ومغايرا ب"الجريمة الكبرى" كما يحلو أن تصفها، حين اكتشفت يوما واحدا قبل حلول شهر رمضان سنة 2018، حادثة الاعتداء على فلذة كبدهما على فراشهما الزوجية، مضيفة أنها اكتشفت أن الوالد مارس على خولة ثلاث مرات بشكل متتابع سطحيا، ولم تصدق كلام الطفلة رغم إلحاحها سابقا على ما تعرضت له.

 

وتحكي الأم عن ما جرى في ذلك اليوم، " حين توجهت لزيارة والدي الذي يقطن على مقربة مني بنفس الدوار حوالي الساعة الثانية زوالا،  وأثناء عودتي على بغتة إلى المنزل، وجدت خولة تستعد للمغادرة للمدرسة، مصدومة، وأزرار قميصها غير مرتبة كما هو معتاد قبل الخروج للفصل، فلما استفسرت منها عن هذا المشهد، أشّرت بإصبعها إلى غرفة النوم بكثير من الذهول، ومن شدة الصدمة أُصبت بالحيرة.. وحبست أنفاسي، ودخلت إلى الغرفة، ونظرت في عينيه، فلاحظت شيئا غير طبيعي، لأتوجه للمطبخ، كأن شيئا لم يحدث". وتضيف الأم، " حاولت بعد ذلك استكشاف معالم ما جرى دون إثارة انتباهه، حيث عثرت على منشفة أتنشف بها وخاصة بغرفة النوم، وعليها "ماء لزج"، وكانت هذه المنشقة "القشة التي قصمت ظهر البعير"، إلا أن الخطأ الذي ارتكبته، حين غسلتها مذهولة، فقد كانت محط سؤال من طرف رجال الدرك فيما بعد ..  وفي اليوم الموالي توجهت لبيت أسرتي، بعدها قمت بوضع شكوى لدى النيابة العامة" .

ترفض خولة اليوم، أن تعاود الحديث عن سيناريو ما وقع لها بالضبط في الفراش مع والدها، كما ترفض حتى نعته ب "بابا" أو حتى تسميته كنكرة، فقد أصبحت تحب العزلة ولا تفارق والدتها، وتدخل في لحظات من التوتر وعدم التركيز، وتوزيع النظرات بنوع من الشك والريبة اتجاه كل الغرباء، إلى درجة قول الأم، أنها أصبحت أحيانا تسأل صديقاتها في الدوار، "هل والدك يمارس معك  ذلك الفعل؟".

هذه الحادثة كما تحكي الأم، خلفت جرحا عميقا، كما أن الطفلة لم تعرض على أي طبيب أخصائي رغم مرور أزيد من سنتان، بسبب الظروف المادية والبعد وغياب الموجه، مما زاد من تعميق أزمتها النفسية، كما ساهمت الحادثة في التأثير على دراستها بشكل سلبي،  حيث قالت أنها وجدت صعوبة في التركيز داخل الفصل بالسنة السابعة إعدادي، وبسبب ترددها على مقر الدرك الملكي والمحكمة، فقد كررت السنة الدراسية الماضية. وقد استمر إخضاع الطفلة لتحقيقات مطولة من المد والجزر، لاستكشاف معالم "الجريمة الكبرى" وإجراء المقابلة بينها وبين الأب وتقديم الأوصاف الجسدية، واستغرقت هذه التحقيقات نحو سبعة أشهر، ليتم في شهر يونيو من سنة 2019 الحكم على الوالد المتهم  بخمس سنوات حبسا.

 

ومنذ تلك اللحظة وخولة رفقة أمها وأشقائها، يعيشان لدى جدهما ويتقاسمان معه البيت، وتعمل الأم بإحدى الشركات لتغطية مصاريف أبنائها، ولم تتلقى أية مساعدة أو توجيه من الجهات الحكومية بعد الحكم على الوالد المتهم، وأصبحت تتوجس لما بعد خروجه من السجن، وكيف سيتصرف معها وأبنائها، بعد أن تطلقت منه بأمر من المحكمة وبرغبة منها، فباتت تُعد الأيام والساعات لما بعد العقوبة، بينما تتأثر خولة بكل محيطها ونظرة الأسرة والمجتمع إليها،منذ شيوع خبر الاعتداء عليها من طرف أقرب المقربين إليها.

لقد ساهم ضعف الطب النفسي، في التأثير بشكل سلبي وخطير على كل الضحايا الذي رووا قصصهم، إلى درجة أن كل واحد منهم أصبح يفكر في الانتقام بطريقته، منهم من يفكر في قتل المعتدين، بسبب تراخي العدالة في القبض عليهم، وخروجهم المبكر من السجن قبل انقضاء العقوبة، ومنهم من يريد أن يصير قاضيا للحكم ب"العدل"، واستعادة شيء من كبرياء الطفولة، في حين أصبحت منازل أسر ضحايا العنف الجنسي، منتكسة، كما فقد الأطفال ابتسامتهم البريئة للأبد، حيث نظرة المجتمع من جهة، ونظرة الأقرباء، الذين ما لبثوا يتحدثون عنهم سرا، مما يجعل الأطفال يسمعون الأحاديث حولهم، مما يعمق جراحهم، حول هذه الهمسات التي تظل لصيقة بأذهانهم، يصعب محوها، ونظرا لأثارها الوخيمة على نفسيتهم.

 

إلى جانب ذلك، فإن الأطفال ضحايا هذا العنف، أضحوا كذلك في عيون أسرهم، عبئا ثقيلا، حيث يلقون عليهم باللوم حول التغافل وعدم الحذر مع الغرباء، خاصة في مجتمع، تتربى الفتيات على أن  الشرف "كنزها" الوحيد، وعدم السماح لأي حد بلمسهن أو قبول الهدايا أو العطايا، ثم أن غياب الثقافة الجنسية، يجعل الأطفال ينعتون ضحاياهم ب"فاعلين لداكشي" أي يقومون بذلك الفعل الجنسي، دون قدرتهم على تسميته، ويمنع عليهم الجلوس مع الضيوف ومعاودة الحديث عن ما جرى، و يبقى"النسيان" هو السبيل الوحيد في نظر الأسر.

 

 وبالإضافة إلى هذا اللوم، فإن التبعات المادية من دفع مبالغ للمستشفيات لقاء استخراج الشهادة الطبية، وتنقلات للمحاكم ومراكز الأمن، وأتعاب المحامين، ومصاريف الملفات، تجعل هؤلاء الأطفال يشعرون أيضا بالذنب اتجاه أسرهم، " لم نستطع التتبع النفسي لدى الطبيب، بحكم سعر الجلسات، فوالدي لا يستطيع الدفع في كل مرة" تقول الطفلة صفية. وإلى جانب هذه التبعات، فإن الاستقرار الاجتماعي لهذه الأسر، أصبح في مهب الريح، حيث الطفل ضحية العنف الجنسي، يصبح حالة شاذة وشاردة داخل الأسرة، وأضحى مستقبله مجهولا ومهددا بالتشرد في أية لحظة، ومعاودة الاعتداء بخصوص الأطفال، وامتهان البغاء بالنسبة للفتيات حين يكبرن.

 

وإذا كانت كل هذه الأعباء تلقى على الأسر في غياب وسيط حكومي، مما يكبد الأطفال وأسرهم الكثير من المعاناة نفسيا وماديا، فإن وزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والأسرة،  والوصية بشكل مباشر على ملفات هؤلاء الأطفال اجتماعيا، أصبحت غائبة  عن المشهد، بإجماع الشهادات من الأسر والمحامين والحقوقيين، وجملة هذه الشهادات وتساؤلات الأسر، الواردة في التحقيق، كانت موضوع حق الرد الذي وُضع أمام الوزارة، إلا أنها تجاهلت الطلب، وهو الأمر نفسه لوزارة الصحة في الشق المرتبط ب"ضعف" الطب النفسي، والتي تسلم مكتب الضبط بمقرها بالعاصمة الرباط، الطلب، غير أنه، لا رد.

هذا التحقيق أنجز بدعم من وزارة الخارجية الألمانية تحت إشراف منظمة "كانديد"

عن: 
محمد أبطاش
تصوير: 
محمد أبطاش ، محمد العسري